يمكن، في البداية ،أن نقول إننا نعيش زمن السرد بامتياز .والمغرب شأنه شأن الدول العربية الرائدة في هذا المقام،أمكنه الوصول إلى هذا الزمن ،بفضل مبدعيه الأكفاء منذ ستينيات القرن الماضي ،خاصة الشباب منهم ،الذين يفضلون التبتل في محراب الكتابة ،ويحرصون حرصا شديدا على نشر كتاباتهم ،رغم عوائق
النشر والتوزيع .ويكفي أن نستحضر في هذا الإطار مجموعة من المبدعين الشباب الذين أبانوا عن
قدرات كتابية هائلة مثل : أنيس ا لرافعي وإسماعيل غزالي وعمر علوي ناسنا وعبد السميع بنصابر
وهشام ناجح ومحمد الرفيق صاحب مجموعة المعاني مطروحة في الطريق ،والتي سنحاول مقاربتها ، بالتركيز على موازياتها النصية ،وفداحة واقعها ،وطرائق كتابتها.
شعرية الموازيات النصية في مجموعة المعاني مطروحة في الطريق:
لا يختلف اثنان حول أهمية الموازيات النصية ،من عناوين ،وأيقونات،واهداءات ، في الولوج الرحب
إلى عوالم النصوص ،للإبحار في يمها واسكناه خباياها .فليس من باب الغرابة أن يعتني الكاتب والناشر معا بها ،لما لها من تأثير بالغ في جذب القارئ وإثارة انتباهه . وستحاول الأسطر المقبلة التركيز على بعض منها بطريقة مقتضبة.
إن أول ما يسترعي انتباهنا في المجموعة، اسم مؤلفها محمد الرفيق ،المكتوب بخط ابيض بارز في أعلى الكتاب ؛وهو قاص مغربي شاب ،يشتغل مدرسا للغة العربية بالثانوي . أصدر مجموعته ،عن سلسلة أجراس الثقافية بالبيضاء؛وهي خطوته الأولى في عالم النشر الورقي ؛الذي اقتحمه بكل الفاعلية اللازمة .
ولعل تواريخ كتابة القصص تشي بأن صاحبها له علاقة وطيدة بالكتابة ، إلا أنه ترك تجربته تختمر ،
وتستوي على نار هادئة ،دونما تسرع أو مغامرة إلى أن قرر قراره ذات يوم على إخراجها، في هذه
الحلة الأنيقة والبهية .
وإضافة إلى كل ذلك ،تطالعنا عتبة من العتبات النصية المهمة ،متمثلة في العنوان ؛الذي يعد من المداخل الرئيسة لرحاب النصحسب الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين وقد كتب بخط عريض وبارز ، ينطوي على غرض تجاري صرف ،يروم لفت انتباه القارئ ،واستدراجه بكل الفتنة اللازمة .
ولعل عنوان المجموعة مثير ومستفز ،وينطوي على شعرية ملغزة ،وفيه إحالة صريحة إلى مقولة
الجاحظ الشهيرة : المعاني مطروحة في الطريق ،والتي أثارت نقاشات واسعة ،وأسالت مداد الأقلام ،في مقالات ودراسات أكاديمية وبحوث جامعية .غير أن البحث سيبقى مفتوحا على مصراعيه أمام الباحثين ،بالتمحيص،والفحص ،والتأمل ؛لان تراث الجاحظ يستحق ذلك.
ولاشك أن القارئ ،ستلفه الدهشة ،وسيطرح العديد من الأسئلة من قبيل :كيف بإمكان المعاني أن تطرح في الطريق؟وكيف تمت الاستقامة بين هذين المكونين المتناقضين ؟ وكيف بإمكان
المعاني أن تصل إلى الطرقات ؟ وما علاقة ذلك بالمجموعة ؟
إنها فتنة العنوان وغوايته . ومن هنا يبدأ التفكيك والتأويل.لذلك ،يحسن الغوص عميقا في يم الكتاب؛ لأن بين ثنايا الكتاب تحمل العنوان نفسه ،للقيام بحفرية مجدية ،تمكن من العثور على خيط ناظم لهذه العملية.
كذلك،لا يمكن أن نغفل الإهداء؛الذي يختلف طرائق صياغته من كاتب لآخر.فهناك
من يجعله مرتبطا بما هو عائلي .وهناك من يخصصه لأصدقائه...
وبالنظر العميق إلى هذه المعاني ،نجد موجهة إلى عائلة الكاتب؛فهو يحمل طابعا
شخصيا صرفا ،والى صديق عزيز عليه ،وافته المنية .
هذا،وتبلغ بلاغة العتبات النصية مداها ،مع تقديم الناقد المغربي الدكتور بنعيسى
بوحمالة ؛ الذي اتخذ بعدا تقريظيا ،يتجسد –أساسا- في إشادته بصاحب
المجموعة ،أخلاقيا؛كان عنده« طالبا لموسمين جامعيين متفارقين »1 .
وكذلك إبداعيا،من خلال الكشف عن موهبة صاحبها ،لغة ،و أفضية ،وتناصا ،
وشخوصا ،وأسئلة متشابكة ،ومعاني لماحة .
وتكمن أهمية التقديم في هذا الصدد ،في قيمة صاحبه المعرفية والأكاديمية؛إذ
يعد الدكتور بوحمالة من كبار نقاد الشعر في الوطن العربي ،تشهد على ذلك
أعماله ومشاريعه الرصينة ،وكذلك ترجماته الباذخة للنصوص النقدية والشعرية
الغربية .
فداحة الواقع ومرارته:
إن القراءة الفاحصة لقصص محمد الرفيق ،ستجلي لنا حقيقة مؤداها أن غالبية
شخوصها تنتمي إلى فئة المقهورين ،والمهشمين ،والمنبوذين ،يعيشون حياة
التعاسة والبؤس والعزلة والهشاشة ،في فضاءات ،تجعلهم يشعرون بالأسى
والاغتراب ،فيكتفون بالتأمل والحلم ،كما في قصة أحلام على الورق لرجل عامل
يكد« يداه المحفورتان بجد وكد الليالي » ؛والذي ستنقلب حياته رأسا على عقب
،بعد فوزه بورقة يانصيب ،فأخذ يحلم ويفكر في تغيير نمط حياته ،من زوجته
الفقيرة واستبدالها بأخرى جميلة ،وصولا إلى إقامة المشاريع الضخمة...
بيد أن أحلامه تبخرت وتكلست ،في لحظة طيش عابرة في حانة حقيرة .
وتصل هذه المرارة مداها ،في قصة طلب رخصة؛إذ تحاول سيدة مسنة الحصول
على رخصة قوادة من مكتب الرخص ؛لأنها تعيش أوضاع مزرية،بعد وفاة معيلها
الوحيد ،لتجد نفسها وحيدة ،رغم توفرها على السكن اللائق .
وهكذا تجد السيدة نفسها في موقف حرج أمام الموظف الشاب؛الذي تفاجأ
بطلبها ودعاها إلى مراجعة قولها لعلها مخطئة في ذلك ؛لكنها أصرت على موقفها
ويبدو أن الألم والأسى ،لا يفارق شخوص المجموعة ؛الذين ينتمون إلى الفئة
المغلوبة على أمرها،تجاهد حتى لا تتعرض لعضات الدهر المؤلمة.كل واحد
منهم له حكايته ..إذا قرأتها،تحترق بأحداثها .حكايات مكتوبة بمداد من الألم.فصادق التوحيدي في قوله
«الألم مداد القلم» وكذلك الكاتب الفرنسي جان جينيه في قوله « ما من مصدر آخر للجمال
غير تلك الجراح الظاهرة والخفية ».ورغم أنهم لا يلوون على شيء،إلا أن الأمل
يراودهم بين الفينة والأخرى،لكي ينتشلهم من عالمهم البائس حد القتامة .
أسئلة الكتابة القصصية في المجموعة:
لكل مبدع طرائقه الخاصة ،في تشكيل عوالم نصوصه وتجميلها ،لكي تنال
الاستحسان من المتلقي .ولعل هذا الهاجس نجده حاضرا عند الرفيق ،من خلال
الاشتغال على مجموعة من التقنيات الكتابية الحديثة كشعرية التناص ،
باستحضار مجموعة من الأسماء:قيس بن الملوح ولا مارتين و أحلام مستغانمي
والجاحظ وشهريار وشهرزاد وبدر شاكر السياب ؛وهي أسماء لامعة في رحاب الشعر ،
وفريدة في حضرة الحكي الباذخ ؛ وهو استحضار جميل من المبدع ،وظفه بطريقة غير جزافية ،خدمت
الحكي ونمته . إضافة إلى ذلك ، يشتغل القاص على بلاغة الحذف ،فغالبية نصوص
المجموعة ،تحضر فيها الثلاث نقط ؛ التي تلغز المتلقي ،وتجعله حائرا لملء هذه الفراغات
،بفطنته ،واجتهاده،وذكائه ،للبحث عن معاني وتأويلات.
وتحضر السخرية في النصوص؛فهي أسلوب مميز في الكتابة السردية ؛إذ تسخر شخوص القصص
من ذاتها ،وواقعها ،كما في قصة التفاحة .ولعل هذا التوظيف يتبدى بشكل كبير في قصة طلب رخصة ،
من خلال مجموعة من الشواهد«الحمد لله أن شوارعنا ملاى باللحم الطري ... باثمنة بخسة ...
ألم تتذوق لحم شوارعنا ! السكوت علامة الإيجاب » ص46.
إنها سخرية من واقع هش لبنات يعشن العوز،لم يجدن عملا،مكرهات ، ارتمين في أحضان الدعارة
،بحثا عن لقمة عيش لهن ،ولأسرهن الفقيرة ،يعرضن بضاعتهن ،على الرصيف وأمام المقاهي ...
بثمن بخس.
وفضلا عن كل ذلك ،فان القاص سينفتح على طرائق كتابية أخرى ،متوسلا بالميتاسرد ؛ إذ تتداخل
الحكايات والقصص .فليس غريبا أن يجد المتلقي صعوبة في التفريق بينها .وتبعا لذلك تبقى النهايات
مفتوحة على احتمالات متعددة ؛ لان الكاتب تعمد أن يشرك المتلقي في عملية البناء والتأويل .